'ضحكٌّ ضد القمع'.. قصة صالح الخميسي من المذياع إلى الزنزانة !
في حديثه العميق عن المناخ الثقافي في تونس الاستعمارية، خاصة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، يرسم المؤرخ لطفي عيسى خلال استضافته في برنامج "واحد من الناس" مع شاكر بسباس، ملامح مشهد ثقافي لا يقل عنفوانًا عن المشهد السياسي، رغم أنه عبّر عن نفسه بأدوات غير تقليدية: الفكاهة، السخرية، والتعليق الشعبي.
الضحك زمن القمع
يؤكد عيسى أن تونس، في ظل الإدارة الاستعمارية، كانت تعيش على إيقاع تحولات كبرى ومصاعب اجتماعية واقتصادية قاسية. ومع غياب الأدوات الكلاسيكية للتعبير الفني - كالرواية أو المسرح الجاد - ظهر نوع من الاحتجاج الثقافي الهامس عبر فنون السخرية والتهكّم. لم يكن هذا الضحك من فراغ، بل كان تعبيرًا عميقًا عن وجع جماعي، ووسيلة ذكية للتواصل مع مجتمع غالبيته لا يُجيد القراءة أو الكتابة..
"دارجة"... " بيضاء"
ويشير عيسى إلى أن أحد أبرز إنجازات هذه المرحلة هو ما يمكن اعتباره "ثورة لغوية"، حيث امتزجت اللغة العربية الفصحى بـالدارجة التونسية، لتشكّل ما سماه بـ"اللغة البيضاء"؛ لغة وسطى تُخاطب وجدان الشعب وتُخترق بسهولة إلى قلبه. هذه اللغة الهجينة لم تكن مجرد وسيلة تعبير، بل سلاحًا نقديًا يستخدمه فنانون وحتى سياسيون، مثل صلاح الخميسي، وعلي الدّوعاجي، وعبد العزيز العروي، لتحويل الواقع القاسي إلى صور ساخرة عميقة، تُضحك وتوجع في آنٍ واحد. وهي اللغة ذاتها التي اتقنها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وكانت أداته الوحيدة في مخاطبة الشعب طوال فترة حكمه.. ويتحدث ضيفنا في هذا السياق، عن ما وصفها بـ ''منافسة مكتومة'' كانت بين الرئيس بورقيبة والحكاواتي الشهير عبد العزيز العروي..
فنان... وناقد سياسي
في تجربة صلاح الخميسي، يتجلى هذا المزج بين الفن والنقد السياسي. يقول عيسى إن الرجل لم يكن مجرد فنان شعبي يلهي المستمعين، بل "ضمير ساخر" وجّه سهام نقده نحو الاستعمار، نحو الإذاعة التي عمل بها، بل وحتى نحو السلطة الوطنية لاحقًا، ممثلة في الحبيب بورقيبة، الذي تعرّض لسخريته اللاذعة في إحدى الأغاني. هذه المواقف كلّفته السجن، والرقابة، والتهميش، وهو ما يثبت – كما يرى عيسى – أن السلطة لم تكن تعتبر الفن الساخر مجرد ترفيه، بل "قوة خطيرة يمكن أن تهدد هيبتها".
لكن كيف وصل هذا الفن إلى الناس؟ هنا يشدد لطفي عيسى على أهمية عامل "أماكن التلاقي الاجتماعي" في تلك الفترة: الحوانيت، المقاهي، الأندية، وحتى ورشات الحرفيين، كانت بمثابة منابر بديلة. هناك كانت تُقرأ الصحف الساخرة بصوت عالٍ، وتُذاع الأغاني النقدية، ويتشكل الرأي العام. كانت تلك الفضاءات تعوّض غياب المسارح والجامعات، وتشكّل رحمًا لولادة ثقافة شعبية حية وناقدة.
حين تعلمت السياسة من الفن
المفارقة في هذا، كما يبرزها لطفي عيسى، هي أن بعض الزعماء السياسيين أنفسهم كانوا قد تأثروا بأساليب هؤلاء الفنانين. يذهب المؤرخ إلى حد القول إن بورقيبة نفسه استلهم من عبد العزيز العروي فن الحكي الشعبي والتواصل بلغة قريبة من الناس. لقد تعلم السياسي من الفنان كيف "يصنع القُرب"، وكيف يحوّل الخطاب السياسي إلى قصة تُروى، لا مجرد بيان جاف يُقرأ.
في النهاية، يقدّم لطفي عيسى قراءة فلسفية لدور هؤلاء الفنانين: إنهم ليسوا مهرّجين، بل "أطباء أوجاع المجتمع"، كما يقول. هم "الحراس اليقظون"، الذين يستخدمون السخرية كأداة تنبيه، وكما قال محمود بيرم التونسي: "النقد امتداد للنبوّة، وكلما خفت صوت الناقد ارتفع صوت الدجال".
لقد علّمنا هؤلاء الفنانون، كما يرى عيسى، أن الضحك ليس دائمًا بلا معنى، بل قد يكون أكثر جدية من ألف خطاب.
أمل الهذيلي
(صورة مولّدة بالذكاء الاصطناعي)